الشهيد العظيم مارمينا
سيرته العطره
نال شهرة لم ينلها أي شهيد مصري سواء في القطر المصري أو خارجه. ولعل
السبب في ذلك العجائب الكثيرة التي يجريها الرب بصلواته إلى يومنا هذا.
وُلد حوالي سنة 285م ببلدة نقيوس مركز منوف محافظة المنوفية. كان والده
أودكسيوس Eudouxious حاكمًا للمدينة، وكان جده Plondionus أيضًا حاكمًا.
وقد نال أودكسيوس شهرة عظيمة بسبب فضائله وتقواه. حسده أخوه أناطوليوس لأن
الجموع كانت تحبه أكثر منه، فوشى به لدى الملك كارينوس. لكن الملك أراد أن
يكسب الاثنين، فأرسل قائده هيباتوس Hypatos ومعه أمر تعيين أودكسيوس
حاكمًا على مدينة أفريقيا القديمة (الجزائر) عوضًا عن حاكمها الذي كان قد
مات. وطلب من القائد أن يرافقه ويطمئن عليه وعلى أسرته، ويُسهل له الطريق
في مقره الجديد. حزن شعب نقيوس جدًا عليه، بل وندم أخوه أناطوليوس على ما
فعله. ابن الموعد اشتاقت أوفيميه زوجة أدوكسيوس العاقر أن يهبها الرب
نسلاً طاهرًا. وكانت تصوم حتى المساء وتقدم صدقات كثيرة للفقراء والغرباء.
وفي أحد أعياد السيدة العذراء في 21 طوبة في كنيسة العذراء بأتريب رفعت
قلبها المنكسر نحو الرب يسوع وطلبت شفاعة القديسة مريم. وإذا بها تسمع
صوتًا من أيقونة الطفل يسوع المسيح وقد حملته والدته يقول لها "آمين".
حملت وأنجبت ابن صلواتها الذي قدمه لها السيد المسيح كوعدٍ منه، فدعته
مينا أي آمين. ابتهجت المدينة كلها بميلاده وأطلق أودكسيوس كثير من
المسجونين، وقدم صدقات كثيرة. نشأته اهتم به والده، فهذبه بتعاليم الكنيسة
بروح إنجيلية، وغرس فيه محبة الكتاب المقدس والعبادة والسلوك بروح التقوى.
مارس حب المعرفة الحقيقية بفكرٍ كنسي تعبدي بورع وتقوى. مات والده وهو في
الحادية عشر من عمره، ثم والدته وهو في الرابعة عشر. ورث عنهما خيرات
كثيرة وبركات روحية مع كرامة. بعد سنة من نياحة والدته عُيّن وهو في
الخامسة عشر من عمره ضابطًا في الجيش في فرقة أفريقيا القديمة (الجزائر)،
ونال مركزًا مرموقًا لمكانة والده. رهبنته التهب قلب مينا الضابط بالجيش
بمحبة الله الفائقة، فقام بتوزيع أمواله على اخوة يسوع الأصاغر. وإذ اشتهى
تكريس كل وقته وطاقاته لحساب مملكة الله ترك خدمة الجيش بعد ثلاث سنوات
(سنة 303م) وتوجه إلى البرية ليتعبد فيها. صدر منشور من قِبل الإمبراطورين
الجاحدين دقلديانوس ومكسيميانوس يأمران فيه بالسجود للأوثان وتقديم قرابين
لها. بعد خمسة أعوام من رهبنته رأى وهو يصلي الشهداء يُكللون بواسطة
الملائكة، ويحملونهم إلى الفردوس، وقد صاروا في بهاء أعظم من الشمس. اشتهى
القديس مينا أن يصير شهيدًا، فسمع صوتًا من السماء يقول: "مبارك أنت يا
آبا مينا لأنك دُعيت للتقوى منذ حداثتك. فستنال ثلاثة أكاليل لا تفنى ولا
تزول... واحد من أجل بتوليتك، والآخر من أجل حياتك النسكية، والثالث من
أجل استشهادك هذا. سيصير اسمك مشهورًا بين الشهداء. لأني أجعل الناس من كل
قبيلة ولسان يأتون ويعبدونني في كنيستك التي ستُبنى على اسمك، وفوق ذلك
كله ستحصل على مجدٍ لا يُنطق به ومجيد في ملكوتي الأبدي". في ساحة
الاحتفال ترك القديس مينا البرية وانطلق إلى المدينة في ثياب النسك، وكان
ذلك اليوم يوافق احتفال ديني عظيم. تمرّرت نفسه وهو يرى الجماهير الكثيرة
في هذا الضياع. تقدم إلى ساحة الاحتفال، وصرخ نحو الجماهير معلنًا اشتياق
الله أن يعرف الكل محبته وخلاصه فقال بصوتٍ عالٍ: "وُجدتُ من الذين لم
يطلبونني وصرتُ ظاهرًا للذين لم يسألوا عني" (راجع إش 65: 21؛ رو 10: 20).
ذُهلت الجماهير لهذا المنظر، وحدث صمت رهيب. حينئذ تساءل الوالي عمّا حدث،
وكيف تجاسر هذا الإنسان ليُعطل الاحتفال بعيد الإمبراطور مزدريًا بالأمر
الإمبراطوري. أعلن الراهب إيمانه بشجاعة. تعرف عليه بعض العسكريين وأخبروه
عن مركزه القديم. اندهش الوالي لساعته وقال له: "لماذا تركت جنديتك؟ وكيف
تعترف أنك مسيحي؟" أجابه القديس" "إني جندي حقًا، لكنني آثرت أن أكون
جنديًا لربي يسوع المسيح لأجل مرضاة اسمه القدوس". وضعوه في الهنبازين
وكشطوا جسمه حتى ظهرت عظامه. وفي سخرية كان القائد يسأله إن كان قد شعر
بالعذاب أم لا. أما هو فأجابه: "عذاباتكم هي رأسمالي، فهي تُعد لي
الأكاليل أمام المسيح ملكي وإلهي". سحبوه على أوتاد حديدية حادة مدببة حتى
تمزق جسمه، وأخذوا يدلّكون جراحاته بأقمشة خشنة. سلّطوا مشاعل متقدة على
جنبيه لمدة ساعتين كاملتين، وقد رفع عنه الرب الألم فلم يتأوه. ضرب على
فمه حتى تكسرت أسنانه، فكان يلهج قلبه بالشكر، حاسبًا أنه غير مستحق أن
يُهان من أجل اسمه القدوس. إذ فشل القائد في إقناعه أرسله إلى الوالي مع
رسالة شرح فيها ما حدث وركب الجند السفينة مع القديس مينا. سمع صوتًا من
السماء يناجيه: "لا تخف يا حبيبي مينا لأني سأكون معك أينما تحل". ألقاه
الوالي في السجن مع كثيرين فكان يُعزّيهم ويشجعهم. هناك ظهر له السيد
المسيح نفسه وعزّاه ثم صعد إلى السماء. في اليوم التالي استدعاه الوالي
إلى مجلس القضاء وأخذ يلاطفه ويتملّقه، وإذ لم يجد حيلة توعده بالموت.
أمر بجلده بسيور جلد الثور، وحاول نشره بمنشار حديدي صلب، وإذا بالمنشار
يذوب كالشمع. أخيرًا أمر الوالي بقطع رأسه بالسيف. وفي مكان الاستشهاد ركع
القديس وصلي رافعًا يديه إلى السماء فضربه السيّاف وتمت شهادته في اليوم
الخامس عشر من شهر توت حوالي سنة 309م، وكان عمره 24 عامًا. أوقد الجند
نارًا لحرق جسده، لكن بقي الجسد ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ داخل اللهيب ولم
يحترق. حمله بعض المؤمنين وكفّنوه بأكفان ثمينة ودفنوه بكل وقارٍ. جسد
مارمينا خرج القائد أثناسيوس ليُحارب البربر الذين كانوا يهاجمون مدينة
مريوط، وأصر أن يأخذ معه جسد القديس. وإذ كشف الجنود القبر ظهر نور عظيم
فسقطوا على الأرض وسجدوا لإله مارمينا. أخذوا الجسد وأخفوه ووضعوه في مركب
قاصدين الإسكندرية ومنها إلى مريوط. وفي البحر هاجمتهم حيوانات مفترسة
فخرجت نار من الجسد وانطلقت كالسهام نحوها، فهربت للحال. إذ وصلوا إلى
الإسكندرية، وحملوا الجسد على جمل إلى مريوط هزموا البربر، وعند رجوعهم
رفض الجمل القيام والسير معهم بالرغم من الضرب الشديد. نقلوا الجسد على
جملٍ آخر أقوى منه فلم يتحرك، وهكذا تكرر الأمر فأدرك القائد أثناسيوس أن
هذه إرادة الله أن يبقى جسد القديس في مريوط. كسيح يكشف عن مكان الجسد
(320-325م). يذكر لنا البابا يوحنا الرابع أن كسيحًا يسكن في قرية قريبة
من مكان الجسد زحف حتى خرج من قريته ورأى مصباحًا منيرًا فأسرع وهو يزحف
فبلغ إلى القبر. هناك رقد ونعس، وإذ كان والداه يبحثان عنه وجداه نائمًا.
وبينما هما يصرخان في وجهه قام يقفز ويجري يخبر أهل القرية بما رآه. جاءوا
إلى القبر فرأوا نورًا يخرج منه. توافدت الجماهير إلى القبر، وكان الله
يصنع عجائب كثيرة بصلوات القديس مينا. شفاء ابنة الإمبراطور بعد زمن كان
أحد الرعاة يرعى غنمه خارج المدينة، وإذا بخروف أجرب ينزل في بركة ثم خرج
ليتمرغ في التراب فبرئ للحال. بُهت الراعي جدًا فكان يحضر الخراف المريضة
يبلها بالماء ثم يُمرّغها في تراب هذه البقعة فتُشفى. ذاع الخبر وسمع
إمبراطور القسطنطينية بذلك. وإذ كانت له ابنة وحيدة مصابة بمرض الجُزام
أرسلها مع حاشيتها إلى مصر لتنال الشفاء من هذا المكان العجيب. في الليل
ظهر لها القديس وأخبرها بأن تحفر في ذلك المكان على عمق بعض الأمتار حتى
تجد رفاته المقدسة. ففعلت ذلك وبنى والدها كنيسة على اسم القديس وكُرّست
في 15 بؤونة. قام القديس أثناسيوس الرسولي (363-373م) ببناء كنيسة في ذلك
الموضع ووضع فيها رفات القديس. كتب البابا ثاوفيلس (395-477م) إلى
أركاديوس بن ثيؤدوسيوس الكبير يشكوا له من ضيق المكان بسبب كثرة الزائرين
فسمع له الملك، وبُنيت كنيسة عظيمة جميلة ملتصقة
0 التعليقات:
إرسال تعليق